Ar Last Edition
Ar Last Edition

Download Our App

ستجد الأقلية (خريجو الإرساليات، أصحاب الياقات، مدخرو الثروة) نفسها عما قريب محاصرة بمن هم على شاكلة أبناء الخندق؛ شباب أفنوا سني اللذة في البحث عن مكانة، وفي درء ذلّ البطالة، ولن يتمكنوا بالطبع من مجاراة اندفاعهم لكي يقلبوا بيروت على عقبيها.

مهدي عيسى

لا ثورة بلا 'الخندق'""

"

إن سلّمنا بأن انتفاضة 17 تشرين تفتقد إلى إيديولوجيا ثورية، فلا مراء بأنها كانت كذلك بلا جماهير ثورية. التخوم كانت بادية، لأن الانتفاضة أفرغت من "الثورية" بعد أيام قليلة على انطلاقها، وانتهت إلى أن تكون احتفالية "تجمع" ولا تفرّق، أو "تفرّق" ولا تجمع، بمعنى أنها نحت نحو "الجمع" من خلال السردية التي قدّمها أبناؤها (خرجنا من عباءة الطائفية، تحررنا من تاريخنا، صرنا جميعاً متشابهين)، وكانت بذلك تفرّق "قوّة الثورة" الحقيقية، التي يعي مالكوها أن الساحة لا تتسع لطيف الألوان، وأن الصواب هو في القسمة، لا في هزل الوحدة والجمع.

واقتضت فلكلوريات الوحدة والتسامح إفراغ المطالب من سياقها السياسي، وتحجيم الاختلاف بين الأحزاب السياسية، وتأجيل النقاش في موقع لبنان الدولي وتعريف أعدائه وأصدقائه، وفي أهداف الانتفاضة على هذا الصعيد.

هكذا صارت المسائل الحقوقية غالبة، والسجالات الاقتصادية متضخمة، وكأن المشكلة في تشريع أو إجراء، وينبغي أن نستدعي لها تكنوقراطيين ثوريين ليضعوا يدهم عليها ويحلّوا عقدها بسحر قادر.

"كيف نكون مع حزب الكتائب في ثورة؟"، سألني ربيع البوي (اسم العائلة مستعار)، أحد أبرز وجوه شبان الخندق الغميق، معبّراً بذلك عن هواجس كثيرين أضرموا وقود الانتفاضة ليجدوا أنفسهم بعد أيام في "الخندق" نفسه مع "أعدائهم"، قبل أن ينسحبوا منه إلى غير رجعة، ويتحولوا في عرف كثيرين إلى "أزلام سلطة" و"غوغاء" يقطعون على أصحاب الحق الطريق. بهذا، قُذف أبناء الهامش إلى الهامش من جديد، وعادت بيروت إلى أبنائها (؟)، فانتفت مبررات الثورة، إذ لم تنحرف عن أوليات المركز.

لكن المركز هذه المرّة يتداعى أو على وشك التداعي، والهامش يتسع بارتفاع نسبة من هم دون خط الفقر إلى 40% من اللبنانيين، وفق البنك الدولي.

بمعنى آخر، ستجد الأقلية (خريجو الإرساليات، أصحاب الياقات، مدخرو الثروة) نفسها عما قريب محاصرة بمن هم على شاكلة أبناء الخندق؛ شباب أفنوا سني اللذة في البحث عن مكانة، وفي درء ذلّ البطالة، ولن يتمكنوا بالطبع من مجاراة اندفاعهم لكي يقلبوا بيروت على عقبيها.

هؤلاء مستعدون أكثر من أي فئة أخرى لأن يدفعوا أثماناً باهظة، لأنهم لا يملكون شيئاً. الثمن قد يكون أرواحهم إذاً، وهم ألفوا ذلك. فكما تلاحظ الأنثربولوجية لوسيا فولك في دراستها سياسات التهميش في شمال لبنان وجنوبه، إن المهمشين، وعلى الرغم من أنهم يعانون من البطالة، ومن سوء التغذية بالتيار الكهربائي، ويُحرمون من الخدمات العامة التي ينالها أبناء المركز من دون عناء، فإنهم الأكثر تقديماً للشهداء من أجل الوطن. ورغم ذلك، لا تظهر ذكرى الشهداء البارزة في الأحياء الشعبية (على جدران المقابر، فوق أعمدة الإنارة..) خارجها، فساحة الشهداء لم تتسع إلا للمثقفين من أبناء المدينة، الذين عُلّقت لهم المشانق.

المشكلة أن "الثوريين" الذين لم يستطيعوا اكتساب أبناء الأحياء الشعبية المتاخمة لساحات التظاهر، يطمحون إلى نزع السلطة من يد الأحزاب وفي كل لبنان! وفيما هم ينادون بأن الثورة "طبقية" يتفاجأون بأن الفقراء ليسوا إلى جانبهم بشكل تام، وبينما يظهرون على الشاشات ليؤكدوا أن اللبنانيين تركوا لوثة الطائفية بعد أن أدركوا شرورها على معاشهم، تتحضر جماعة ممن مُدحوا في أيام الانتفاضة الأولى لشكيمتهم ولقّبوا بـ"عراة الصدور"، للنزول من جديد، لكن هذه المرة لضرب المتظاهرين أنفسهم، وشعارهم واضحٌ إلى أبعد حدود: "شيعة.. شيعة".

لنكن واضحين، هناك من لا يريد إلى اليوم أنيسمع لأبناء الأطراف ويعي آلامهم وهواجسهم، وهو غير مستعد لأن يسلّم بأن هناك طائفيين يريدون حياة بلا قهر؛ طائفيين لا يرون في الطائفية ما يشين، وحزبيين لا يستبدلون ولاءهم، لكن في الوقت عينه، لا يسكتون عن حرمانهم، بل قد يكون فيهم من يرغب في أن تكون الثورة مكسباً لأبناء طائفته أو حزبه أو عائلته، ومغرماً على من دون ذلك.

الفضل لـ17 تشرين الأول وما بعده في أنه أعاد تذكيرنا بأننا أهملنا طويلاً المسألة الاجتماعية، وأنّ فهمنا للمسألة منقوص ومشوّه، ربما لأننا ركنّا بذلك إلى مؤسسات الدولة، والأخيرة تدير المجتمع من خلال جهلها به، وإلا فأي دولة لا تحصي عدد سكّانها!؟ والفضل له أن أعاد المهمّشين إلى الواجهة، وإن بشكل مضطرب ومثير لسوء الفهم.

يجادل آصف بيات في أن المهمّش ليس ذلك الرجل الأعزل عديم القوّة، ولا ذلك المهزوز الذي لا يملك قيماً ومعايير، أو ذلك الرجل غير الحديث أو المعادي للحداثة، بل هو ببساطة الرجل الذي وقع على فرصة أن يعيش حياة بمعاييره، ووفق شروطه، من دون كلفة معايير أبناء المركز، وهو رغم ذلك يملك قوّة متراكمة، نظراً إلى أنه متفلت من الضغط، وبالتالي، فإن بإمكانه تخريب النظام العام (سواء كان القياس دولاً طرفية لمركز أو أفرداً لمركز)، وإثارة القلق، وتخريب ما هو قائم.

أقول ذلك لأؤكد أن لا غنى لأي ثورة عن الهامشيين الذين يعرفون جيداً أعداءهم وسالبي حقوقهم، وهم يوم تقوم القسمة سيكونون في الخندق الذي ما خرجوا منه مذ ولدوا، أي خندق الفقراء.

"

مدير تحرير صحيفة الخندق